قبل القراءة
اضغط لايك لصفحتنا علي الفيس بوك ليصلك اخر تدوينات المدونة
يعد اضطراب التوحد بمثابة اضطراب نمائي عام أو منتشر pervasive developmental disorder تظهر آثاره في العديد من الجوانب الأخرى للنمو وتنعكس عليها، كما أن مثل هذه الآثار تبدو على هيئة سلوكيات تدل على قصور من جانب الطفل. وتشير باتريشيا هاولين (1997) Howlin, P. إلي أن إضطراب التوحد عادة ما يقع ضمن الإعاقات العقلية العامة general intellectual disabilities التي يزداد انتشارها بين البنين قياساً بالبنات إذ تصل النسبة بينهما 4:1 حيث أن ما يزيد عن 90% تقريبا من الأطفال التوحديين يقع ذكاؤهم في حدود التخلف العقلي البسيط والمتوسط. ومع ذلك فإن متلازمة اسبرجر Asperger's syndrome والتي تعتبر أحد أنماط اضطراب التوحد لا تصيب سوي الأطفال ذوي الذكاء العادي أو المرتفع فقط، وربما المرتفع جداً، وأنها نادرة جداً ما تصيب طفلاً تقل نسبة ذكائه عن المستوي المتوسط
ومن الأمور الثابتة التي ترتبط بهذا الاضطراب أن معدل انتشاره يعتبر في تزايد مطرد وهو الأمر الذي جعلنا نلاحظ حدوث زيادة حقيقية وكبيرة في انتشاره، وربما ترجع مثل هذه الزيادة في نسبة انتشاره إلي الفهم الواعي والإدراك الجيد لطبيعة هذا الاضطراب من جانبنا في الوقت الراهن وذلك على العكس مما كان يسود من قبل وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلي القول بأننا إذا ما عدنا إلي الوراء ربما كثيراً وذلك إلي بداية اكتشافه على يدي ليو كانر Kanner, Leo عام 1943م ثم إلي بداية ظهور في دليل التصنيف الشخصي والإحصائي للأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية الذي يكتب اختصاراً DSM وذلك منذ عام 1980م وما بعدها، وكيف كنا ننظر إليه بداية من اعتباره نمط من فصام الطفولة إلي اعتباره اضطراب في السلوك، ثم اعتباره أخيراً مع ظهور الطبعة الرابعة من الدليل التشخيصي السابق DSM-IV وذلك في عام 1994م اضطراب نمائي عام أو منتشر يؤثر على جوانب النمو الأخرى وفي مقدمتها الجانب العقلي المعرفي، وأن آثاره تنعكس بشكل واضح في سلوكيات الطفل فسوف نجد أن الكثير جداً من تلك الحالات التي لم يكن يتم تصنفيها على أنها اضطراب توحدي سوف يتغير أمرها إذا ما أعدنا تصنيفها وتشخيصها من جديد إذ سنجد أن نسبة انتشاره كان لابد لها أن ترتفع منذ ذلك الوقت لولا عدم معرفتنا الكافية بطبيعة ذلك الاضطراب مما حدا بنا إلي تشخيص تلك الحالات بشكل خاطئ، أما الآن فإن معرفتنا الدقيقة بالاضطراب قد جعلت بمقدورنا أن نشخصه بدقة وهو الأمر الذي ساهم في إبراز نسبة انتشاره الحقيقية فبدت أعلي بكثير مما كانت عليه من قبل وهو ما جعله ثاني أكثر أنماط الإعاقة العقلية انتشاراً، ولا يسبقه سوى التخلف العقلي وذلك وفقاً لنسب انتشار مثل هذه الأنماط من الإعاقات العقلية.
ومن الجدير بالذكر أن حوالي 20 -30 % تقريباً من الأطفال التوحديين يظهر لديهم الصرع epilepsy مع بداية مرحلة المراهقة. وعلى الرغم من عدم القدرة حتى الآن على تحديد سبب معين يعد هو المسئول عن اضطراب التوحد فإن هناك بعض الآراء تذهب إلي وجود ارتباط له بإصابة الأم الحامل ببعض الأمراض كالحصبة الألمانية rubella أو الحصبة العادية measles أو النكاف mumps. وهناك من يربطه أيضاً باضطراب في جين معين كما هو الحال بالنسبة للفينيل كيتونوريا phenylketonuria PKU، وهناك من يربطه كذلك بشذوذ كروموزومي معين مثل مروموزوم X الهش Fragile X chromosome. ومع ذلك فإن صورة اضطراب التوحد في تلك الحالة تظل لا نمطية atypical ورغم كل هذا هناك رأي قوي يذهب إلي ربط مثل هذا الاضطراب بالتصلب الدرني للأنسجة tuberous sclerosis. وإلي جانب ذلك فإن دراسات التوائم تؤكد أن هناك سبباً جينياُ لهذا الاضطراب حيث أنه قد تكرر في حالة التوائم المتشابهة بنسبة 92% في مقابل 10% فقط للتوائم غير المشابهة، كما أن احتمال ولادة طفل توحدي آخر في الأسرة التي لديها طفل توحدي واحد لا يتجاوز 3% تقريباً، ورغم كل ذلك فليس هناك رأي يمكننا أن نتمسك به وندعي أنه هو المسئول الأول أو الأساسي عن ذلك الاضطراب.
وقد حاول العلماء كما تشير هولينز (2002) Hollins تحديد مكون أو سبب جيني معين يعتبر هو المسئول الأول من وجهة نظرهم عن التوحد، ورأوا أنه من المفترض أن تكون هناك عدة جينات تعد في مجملها هي المسئولة عنه، فحددوا لذلك الكروموزومات أرقام 7،9، 15 ولكنهم استبعدوا بعضها بعد ذلك، وشرعوا يبحثون عن غيرها حيث رأوا أن تلك السلوكيات المرتبطة باضطراب التوحد إنما ترجع في الأساس إلي عدة جينات مختلفة، وأن تعاطي الأم الحامل للعقاقير المختلفة، أو للكحوليات، أو تعرضها للأمراض، أو التسمم بالمعادن يتفاعل مع تلك المكونات الجينية فيجعلها تؤدي إلي حدوث مثل هذا الاضطراب. وبذلك يتضح جلياً تضارب الآراء حول هذه الأمور خاصة وأن هناك رأي قوي آخر يذهب إلي أن هناك شيئاً ما خطأ قد وقع بالفعل بين الحمل والولادة فأدي إلي حدوث تغيير في كيمياء المخ وذلك على الرغم من عدة القدرة على تحديد ذلك الأمر.
وغنى عن البيان أن الأطفال التوحديين يعانون من قصور واضح في معدل نموهم المعرفي وفي قدراتهم المعرفية المختلفة. كما أنهم من جانب آخر يعانون من قصور واضح في مجالات أخري تعد بمثابة ثوابت أساسية يمكن أن نعرف هذا الاضطراب من خلالها، كما يمكن أن نعرض لها علي النحو التالي:-
1- قصور في نموهم الاجتماعي:-
يتمثل هذا القصور من جانب أولئك الأطفال الذين يعانون من ذلك الاضطراب في وجود صعوبات ومشكلات اجتماعية عديدة من جانبهم فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي عامة لدرجة تجعله يمثل في أساسه مشكلة اجتماعية. ومن الصعوبات التي تواجههم في هذا الجانب ما يلي:-
- صعوبة في إقامة العلاقات الاجتماعية المتبادلة.
- قصور الانتباه المشترك من جانبهم.
- عدم قدرتهم على التعاطف مع الآخرين.
- صعوبة فهم القواعد الاجتماعية من جانبهم.
- عجزهم عن الارتباط بالأقران.
- عدم قدرتهم على التواصل البصري.
- عدم قدرتهم على فهم تغييرات الوجه.
2- قصور في التواصل مع الآخرين:-
يعاني هؤلاء الأطفال أيضاً من قصور في التواصل سواء لفظياًُ أو غير لفظي حيث أن هناك 50% منهم على الأقل لا تنمو اللغة لديهم على الإطلاق، وبالتالي لا يكون بمقدورهم استخدام اللغة في الحديث أو استخدامها للتواصل، أما بالنسبة الباقية فإنها تعاني من قصور واضح في نمو اللغة لديهم حيث يتأخر ذلك النمو بشكل ملحوظ، ولا يكون لديهم سوي بعض الكلمات القليلة، ومع ذلك لا يكون بإمكانهم استخدامها في سياق لغوي صحيح كي تدل على معناها الذي نعرفه نحن، أي أنهم لا يستخدمونها بشكل صحيح، كذلك فهم يعانون من اضطرابات مختلفة في النطق articulation disorders.
ومن ناحية أخري فإن لغتهم التعبيرية expressive language تتسم التكرار، والترديد المرضي للكلام echolalia، والنطق النمطي لتلك الكلمات التي يعرفونها، وعدم القدرة على إجراء محادثات متبادلة مع الآخرين أي عدم القدرة على إقامة حوار أو محادثة معهم، وإبدال الضمائر، كما أن نغمة الصوت وإيقاعه من جانبهم يكونا غير عاديين، هذا بخلاف الاستخدام الشاذ أو غير العادي للإيماءات. ومن ناحية أخري فإن لغتهم الداخلية internal language أي قدرتهم على التظاهر أو اللعب التخيلي تمثل جانبا آخر من جوانب القصور التي يعانون منها. أما قدرتهم على الفهم والاستيعاب من جانب آخر فهي محدودة جداً، كما أنهم يكونوا غير قادرين على فهم وإدراك المفاهيم المجردة.
3- اهتمامات وميول وسلوكيات مقيدة وتكرارية:-
وفيما يتعلق باهتماماتهم وسلوكياتهم المقيدة والتكرارية فهي تتضح في أمثلة عديدة من بينها أن أنماط لعبهم تكون تكرارية ونمطية، وأنهم يقومون بجمع أشياء معينة غالباً ما تكون غير ذات قيمة أو جدوى لهم، ويضعونها في صف. كذلك فمن أهم الأمور التي تميزهم التعلق بأشياء غير عادية والانجذاب إليها، والانشغال الشديد بموضوعات أو أمور معينة، ومقاومة أي تغير يمكن أن يطرأ على بيئتهم المحيطة حتى وإن كان مثل هذا التغير بسيطاً، والإصرار على التمسك بروتين صارم في أداء الأشياء إلي جانب القيام بحركات نمطية معينة.
وعلي الرغم من أن جميع الأطفال التوحديين يعانون من جوانب القصور تلك التي عرضنا لها فإن تلك المشكلات التي تصادفهم في كل منها تتوقف على مستوي ذكائهم، كما قد تتوقف على عمرهم الزمنة إلي حد ما حيث أنه مع زيادة مستوي الذكاء، وزيادة العمر الزمني يزداد احتمال استخدام الطفل للكلمات المختلفة، ودخوله في تفاعلات اجتماعية مع الآخرين، والانشغال باهتمامات خاصة، وتجميع الحقائق بدلاً من تجميع الأشياء. ومع ذلك يبقي الطفل مع زيادة عمره الزمني ووصوله إلي مرحلة المراهقة وما بعدها معتمداًُ بشدة على أسرته، وتظل له احتياجاته الخاصة التي تتطلب العديد من التؤاؤمات في البيئة المحيطة وذلك على العكس من أقرانهم ذوي متلازمة أسبرجر والذين يكون مستوي ذكائهم كما يري عادل عبد الله (2004) على الأقل في المستوي المتوسط، كما يكون مستوي ذكاء بعضهم الآخر مرتفعاًُ، وربما يكون مرتفعاُ جداً مع العلم بأن بعضهم يكون موهوباُ في مجال أو أكثر من المجالات المختلفة للموهبة.
وجدير بالذكر أن التدخلات المختلفة وخاصة التدخلات الطبية أو الغذائية التي تتعلق بتحديد نظام غذائي معين يكون أثرها محدوداً، أما التدخلات الأخرى والتي تكون سلوكية في الغالب كما يري عادل عبد الله (2002) حتى مع استخدام المثيرات البصرية التي تسير وفق الاتجاهات الحديثة في هذا الصدد وفي مقدمتها جداول النشاط المصورة فإن نتائجها تتوقف على مستوي ذكاء الطفل وترتبط به في علاقة إيجابية. ولكن برامج التدخل المبكر تسهم في الحد بدرجة كبيرة من تلك المشكلات المتباينة التي يعاني الطفل منها فتنعكس على الأسرة كذلك حيث أن عدم التعامل بفاعلية مع تلك المشكلات يقلب حياة الأسرة رأساً على عقب، ويجعلها لا تطاق، كما أن النجاح في التعامل من خلال تلك البرامج ييسر التفاعل بين أعضاء الأسرة.